السير الذاتية
ليس في الناس من يكره الحديث عن نفسه, حتى الذين يقولون ذلك بألسنتهم إنما يعانون ألما شديدا لكف أنفسهم عما تشتهيه, إذا هم قدروا على كفها. وكثير منهم من يجعل من ذلك وسيلة إلى التحدث عن ذاته , على وجه يوحي بأنه ينتزع الكلام عنها انتزاعا , وهو كاره له , وإذا كان الحديث عن النفس بطريقة شفوية عامة حظاً مشاعاً بين أبناء الإنسانية , فانه من بعض صورة قسمة تختص بالأديب أو الفنان ,لأن "الأنا " صاحبها يجب أن يخلق مزايا المرايا المجلوة وينظر إلى نفسه فيها .,وهي مكشوفة إذا كان يترجم لذاته , ويتحدث عن سيرة حياته . وليست الترجمة الذاتية حديثا ساذجا عن النفس , ولا هي تدوين للمفاخر والمآثر , ومن ثم كنا نستسيغها ونجد فيها متعة عميقة , بينما نهرب من الثرثارين الذين يملئون المجالس حين يملئون المجالس بالحديث عن مفاخرهم وجهودهم , وننسبهم إلى الغرور , ونتهكم منهم إذا استطعنا لأنهم يصدمون فينا إحساسنا الذوقي بالصدق بالخبر , ويسدون علينا المجالس العريضة حين يملئونها بدعواهم المتفنجة وغرورهم العريض .
أما كاتب السيرة الذاتية فإنه قلما يصدم مشاعرنا بما يقول إلا أن يطالعنا بمثل ما يقول سنبسر في ترجمته عن نفسه : (( كانت لدي قدرة فائقة في العرض , فقد كنت أقدم مقدماتي وتعليلاتي ونتائجي بوضوح ونصوع لا يتمتع به الكثيرون . فمن أين جاءتني هذه المقدرة ؟ سرها أن جدي قضى حياته في التعليم وصرف أبي كل حياته في التعليم أيضا .. ولا يستطيع أحد أن ينكر أني بطبعي نقادة ...)) أو كقول نيتشه في ترجمته الذاتية (( لماذا تفوق معرفتي سائر الناس , ولمَ أنا في الجملة رجل حاذق .. )) .
فهذا مما تخونه اللباقة , وان كان حقا , ومثل الأقوال نفسها لا تصدمنا كما تفعل قصص المتنفجين عن أنفسهم , لأننا نعترف , ونحن نقرؤها , إن سبنسر كان موهوبا , وان نيتشه كان عبقريا , والموهبة والعبقرية يغفران كثيرا من العجب , وتسجيل هذا العجب في كتاب أسهل قبولا من إشاعته باللسان , من ذلك حديث العقاد عن نفسه في"سارة "فانه اخف مئة مرة , من حديثه عن نفسه للنفر الذي يحضر مجلسه كل جمعة .
وبين المتحدث عن نفسه وكاتب السيرة فرق كبير , فالأول لا يزال كلما أمعن في تيار الحديث يثير شكنا , والثاني يستخرج الثقة الممنوحة له منا , خطوة أثر خطوة , ولذلك كان الأول كلما أمعن في تيار الحديث يثير شكنا , والثاني يستخرج الثقة الممنوحة له منا خطوة اثر خطوة . لذلك كان الأول في نظرنا شخصا عاديا بل أقل من عادي , وأما الثاني فشيء مغاير له تماما , لاعتقادنا أنه لم يكتب سيرته لملء الفراغ فحسب , وإنما كتبها لتحقيق غاية كبيرة , أبسطها الغاية التي ذكرها سبنسر في كتابه وهي أن يجعل كتبه واضحة لمن يقرؤوها , أو ليعرف الناس بالكتب التي ألفها والتي يزمع تأليفها .
وكاتب السيرة الذاتية قريب إلى قلوبنا , لأنه إنما كتب تلك السيرة ليوجد رابطا ما بيننا وبينه , وان يحدثنا عن دخائل نفسه وتجارب حياته , حديثا يلقي منا إذنا واعية , لأنه يثير فينا رغبة في الكشف عن عالم نجهله , ويوقفنا من صاحبه موقف الأمين عن أسراره وخباياه , وهذا شيء يبعث فينا الرضي , وقد يأسرنا فيحول أنظارنا عن الضعيف والواهي في سرده ., ويحملنا أن نتجاوز له عن الكذب , ونتقبل أخطاؤه بروح الصديق , وإذا أدى الكاتب هذه المهمة فقد رضي أيضا عن نفسه لأن دوافعه إلى التحدث هي الدوافع التي تحدو صاحبها إلى الإفضاء بمكنونات صدره , دون تحرج أو تأثم .
ويقودنا هذا إلى التساؤل متى يكتب كاتب السيرة سيرته :
ونستطيع أن نقول في جواب هذا أن كل سيرة فإنما هي تجربة ذاتية لفرد من الأفراد , فإذا بلغت هذه التجربة دور النضج , وأصبحت في نفس صاحبها نوعا من القلق الفني , فانه لا أن يكتبها . وليس لدى الكتاب عمر معين يقفون فيه لكتابه سيرهم , فان نيتشه كتب سيرته وهو في الأربعين , وكتبها سلامة موسى حين بلغ الستين , وأحمد أمين حين تجاوز هذه السن أيضا .
ولكن لا ريب أن الإسراع في كتابه سيرة ذاتية يفوت على كاتبها أمورا كثيرة, فقد يكتبها قبل أن يتضح له نتائج تطور خطير في حياته وقد يكتبها قبل أن تقف مبادئه في الحياة واضحة جلية لعينه.
وحظ السيرة من البقاء , منوط بحظ صاحبها نفسه من عمق الصراع الداخلي أو شدة الصراع الخارجي , وانه قد تجري حياة فرد من الأفراد جريان الماء الرقراق على ارض من الحصباء , ولكن عظمته في مكانه من التاريخ تجعل لسيرته الذاتية قيمة وذيوعا , سواء أكانت تلك العظمة في دنيا الأعمال أو في الأفكار .
اتهى بحمد الله .. وتبقى ان ننشر المناقشة الأدبية ..