قصة قصيرةأصعب دموع
أعمل في هذا المتنزه منذ سنوات ، وهي تأتي على كرسيها المتحرك من قبل أن أعمل ، يدفعها سائق متأنق ، يأتي بها في الصباح ، ويعود بها في المساء ، بقيت لسنوات وأنا أراقبها ، تجلس أمام البحر وتنظر إليه ، كأنها تحدثه ويحدثها ، وفي يدها كتاب لا يغادر كفيها الرقيقين ، داهمني الفضول ، ولما احتلني قررت في هذا اليوم أن أقتحم خلوتها ، وأتعرف عليها ، وأكشف سر هذا الكتاب الذي بين كفيها ، اقتربت وأنا أرتعش ، فجمالها أخاذ ، وجاذبيتها ساحرة ، وكلما اقتربت تداعى إلى أنفي رائحة عطر لم أشتمه من قبل ، وقفت خلفها في خشوع ، وشعرها المنسدل على كتفيها ، ثم على الكرسي ، تنبعث منه حرارة ، تكفي لتدفئتي من برد السنين ، أوشكت أن ألمسه بأطراف أصابعي لكني تراجعت ، تقطعت أنفاسي ، وانتابني شعور مفاجئ بالدوار ، ورحت أترنح ، حتى التفتت إلي بعينيها الخضراوتين ، ونظرت إلي نظرة ثاقبة ، فتجمد الدم في عروقي ، واحمرت وجنتي في آن واحد ، حتى ارتسمت ابتسامة رقيقة على شفتيها العنقودية ، فرددت بمثلها ، ثم أشارت لي بالجلوس ، جلست أمامها وأنا في حلم جميل ، وقالت بصوت ساحر أخاذ ، ووجه آسر خلاب :كتبها : أحمد كمال
- هل أستطيع أن أخدمك بشيء ؟
فهززت رأسي مرة بلا ثم بنعم ثم بصمت مطبق ، راحت تنظر إلي مستغربة ، واستجمعت عندها قواي ، وشحذت عزيمتي ، وسللت حماستي وقلت :
- لقد أردت أن أتعرف عليك ، فأنا أراقبك منذ سنوات !!
فاحمرت وجنتيها من الخجل ، وراحت تنظر إلى الأرض في ارتباك شديد ، ثم واصلت :
- أنا لا أقصد مضايقتك ، ولكن الفضول ، وربما الإعجاب جرأني اليوم لأقتحم خلوتك
فلملمت أشلائها ، وراحت تضحك بهستيرية ، وأنا مستغرب تماماً ، ثم قالت :
- تراقب امرأة مقعدة في العقد الرابع من عمرها !! أنت غير طبيعياً!!
وشعرت بأنها لا تصدقني ، وبدت ملامح الضيق على وجهي ، وخيبت الأمل تشع من عيني ، وأوشكت على القيام ، فربتت على كفي بحنو بالغ قائلة :
- لا تغضب ، أنا مدينة لك بأول ضحكة في حياتي !!
فسألتها مباشرة وبقسوة :
- ما ذاك الكتاب الذي بين كفيك ؟!
فقلبت الكتاب بين كفيها ، ثم نظرت إلي ، ومدت يدها لتعطيني الكتاب ، قائلة :
- تفضل !! يمكنك أن تقرأه ، إنها ذكريات حياتي !!
أمسكت الكتاب ورحت أقلب في صفحاته بنهم شديد ، لا أحرف ، لا كلمات ، لا عبارات ، صفحات بيضاء ، ابتلت ، وجفت ، فنظرت إليها مستغرباً ، لتقول :
- أنا لا أجيد الكتابة مثل الأدباء ، وتلح علي خواطر كثيرة سجلتها بالدموع ، كلها بالدموع !!
فاتسعت حدقتي ، وثغر فاه ، وهي تنظر إلي وتضحك ، تضحك ، ثم قالت :
- دعني أوضح لك !!
ورحت أقلب في صفحات الكتاب وهي تخبرني بكل نوع من أنواع الدموع المجفف على الصفحة
لكل دمعة قصة كانت تقصها علي ، ومرت الدقائق ، والساعات ، الأيام ، والأسابيع ، الشهور ، والفصول ، وسنوات ، كلمح البصر ، تنتظرني ، وأنتظرها ، وفي كل صفحة دمعة ، ولكل دمعة حكاية ، ودائماً مؤلمة !! ولم يعد في الكتاب غير صفحتين ، بدمعتين ، هذه الدمعة كانت غريبة ، فنظرت إليها متسائلاً ، فردت بضحكتها الصاخبة التي تعودت عليها قائلة في خجل :دموع الغـــــــــــــــــــــــــــــــــضــــــــــــــــــــــــــبالعنــــــــــــــــــــــــــــــــــادالرضاالوفاقالصلحالوفاءالألمالوجعالاشتياقالقهرالظلمالحرمانالفقرالجوعالحباللهفةالمتعةالنشوةالفراقاللقاءالعذابالانكسارالانتظارالوحدةالغدرالخيانةالامتلاكالنصرالهزيمةالضياعالفرحالحزنالذلالرجاءالقسوةالحنانالرحمةالشفقةالمواساةالندمالكرهالانتقامالخوفالرعبالأمانالنسيانالذكرياتالحقدالبغضالكرامةالسماحالصفاء
- هذه دموع البصل !!
فضحكت أنا الآخر ، وأنا لا أريد أن أقلب الصفحة الأخيرة حتى لا أحرم من رؤيتها بعد اليوم ، ولكنها أشارت لي برموش عينيها أن أقلب الصفحة ، فلما قلبتها ، وجدتها بيضاء ، بدون دموع ، وعندها أمسكت بيدي لأول مرة ، وشدت عليهما قائلة بصوت متهدج :
- هذا أصعب بكاء ، البكاء من دون دموع ، كالألم بدون صراخ !!
وإذا بي لا أتمالك نفسي ، وتتسلل من مؤقتي ، عبرات ساخنة ، تنساب على خدي ، وتسقط على غلاف الكتاب ، فتريح ظهرها على الكرسي ، وتنظر إلي قائلة :
- شكراً ، شكراً على التوقيع !!
وراحت!!
ورحت أجهش في بكاء شديد ، أو أؤكد التوقيع !!
انتهى