ثمة إختلاط فى المفاهيم لدى البعض بين فكرتَىّ النصر العسكرى والنصر الحضارى، لكن الفارق بينهما يتضح جلياً على مر التاريخ فى مناسبات عديدة.. فنجد مثلاً أن شعوباً مثل الهكسوس والرومان والفَيكنج والمغول انتصروا عسكرياً على أعدائهم من المصريين والمسيحيين والفرنسيين والمسلمين (بالترتيب)، إلا أنه عادةً ما تأثر هؤلاء المنتصرون حضارياً أو لغوياً بل ودينياً بالمهزومين رغم أن العكس هو المتوقع.. فنجد أن المغول تحولوا للإسلام خلال حوالى قرنين من تفكك دولتهم، وأن الهكسوس تشبهوا بالفراعنة فى لباسهم وعاداتهم وقدموا القرابين للآلهة المصرية حتى أطلقوا على أنفسهم "أبناء رع"، وأن المسيحية إنتشرت إنتشاراً واسعاً فى الإمبراطورية الرومانية قُدِّر بعُشر السكان وقتما كان المسيحيون مضطهدون حتى صارت النصرانية فى النهاية -بعد تعديلها قليلاً لتوائِم المعتقدات الوثنية- هى دين الدولة الرسمى، وأن الفَيكنج ذابوا تماماً فى مقاطعة نورمندى حتى لم يعد بإمكانك التفرقة بين الغزاة وسكان الأرض الأصليين بعد جيلين من الغزو.
إذاً فالنصر أو الهزيمة العسكرية لا يعكسان بالضرورة مدى نجاح الأمم أو المذاهب الفكرية.. فقد يغيِّر قائد ماهر أو سلاح جديد أو جاسوس ذكى نتائج المعركة والحرب رأساً على عقب، ومن ثَم فلا يمكن إعتبار نتائج تلك المعركة دليلاً على التفوق الحضارى ولا يمكن الإعتداد بنتائج تلك الحرب كنهائية باستثناء حالات الإبادة الشاملة، بل هو عمق وثقافة الأمة ونتاجها الفكرى وما تملك أن تقدمه للبشرية من أسلوب أفضل للحياة هو الذى يحدد الباقى من عمرها ومدى تأثيرها على الآخرين بغض النظر عن النتائج العسكرية.. فمثلاً تقترب قوة الصين العسكرية من أمريكا، لكن لن يجادل أحد أن تأثير ثقافة الأخيرة أقوى مئات المرات على مستوى العالم من الأولى نظراً لما نتنجه من أفلام وإختراعات وأسلوب حياة متكامل بدءاً من نظام الحكم والعلاقات بين الجنسين وصولاً للبنطلون الجينز وساندوتش الماك ورقصة الرُك.
وهذا يعيدنا للمقارنة القديمة بين "السيف والقلم"، وأيهما أقوى أثراً وأكثر توغلاً لإحكام سيطرة أمة من الأمم على خصومها؟ وفى ضوء المعطيات التاريخية تعتمد الإجابة على الهدف من التنازع.. فلو كان المطلوب هو بسط النفوذ على مناطق حساسة كسيطرة الإنجليز على قناة السويس أو سيطرة اليهود على فلسطين أو سيطرة الأمريكان على العراق مثلاً فلا شك أن السيف أفتك من القلم فى المراحل الأولى على الأقل. أما إذا كان الهدف هو البقاء والإستمرار على المدى الطويل الذى قد يمتد لمئات أو آلاف السنين فالواضح -أيضاً من المشاهدات التاريخية- أن الجنود لا يكفون لتحقيق ذلك الغرض.. فلم نسمع عن دولة ظلت قوية لألف سنة متصلة مثلاً، وذلك بعكس لغات وأديان وتقاليد عريقة عاشت لآلاف السنين وحتى وقتنا الحاضر رغم الصعود والهبوط المتكرر لحاضنيها.
والحضارة أو الثقافة أو الهوية هى أول ما تستهدفه الفئات النابهة عند فرْض سيطرتها.. فنجد العلمانيون فى تركيا مثلاً إهتموا بالتخلص من الطربوش وإستبداله بالقبعة الأوربية فور سقوط الخلافة، كما تم منع المحجبات والملتحين من دخول المبانى الحكومية، ونجد أن الإستعمار الفرنسى وجه طاقاته فى سبيل "فَرنَجة" لسان الجزائريين وطمس تاريخهم العربى والإسلامى كى لا يبقى لهم إنتماء إلا لفرنسا، ونجد فى العراق بعيد الغزو إفتتاح فرع لمطعم كنتاكى فى الفلوجة التى كانت قلب المقاومة وأحدّ شوكة فى حلق الإحتلال. ولاحظ أنه لا يمكن لتلك الرموز -أى المظهر الخارجى واللغة والطعام وغيرها- أن تنتصر وتسود إلا بتشجيع من الشعوب عن طريق تبنى ذلك المظهر وتحدث تلك اللغة وإعتياد ذلك الطعام، لأنه يَصعب إن لم يكن يستحيل إجبار الناس عليها بالقوة. وهذه الرموز الأجنبية إما أن تبقى بعد رحيل الجيوش إن أُشربت قلوب الناس بها فسمحوا لها بإحلال محل عادات آبائهم وأجدادهم، أو أن ترحل مع رحيل آخر جندى إن رفضها الشعب.. فتقبُّلها أو مقاومتها إذاً هو الذى يُشكِّل حضارات الأمم على المدى البعيد.
ما يعنينا من تلك المقارنة بالطبع هو الوضع الحالى لأمتنا المنهارة على المستويين العسكرى والثقافى.. فإن كنا لا نستطيع كشعوب تغيير واقعنا العسكرى المرير فلا أقَل من محافظتنا كأفراد على بعضاً من هويتنا الثقافية المتمثلة فى الدين واللغة والملبس والتقاليد، وقد تدهور مستوى التمسك بتلك العناصر فى بلادنا إلى درجات غير مسبوقة. فماذا تُكتب معظم واجهات المحلات والشركات بلغات أجنبية حتى لا تكاد تعرف أأنت فى القاهرة أم فى نيويورك؟ علماً بأن جميع زبائنها تقريباً من العرب. وما الهدف من طباعة المطاعم لقوائم المأكولات بلغات أجنبية بما فى ذلك الإيطالية التى لا يعرفها أحد علماً بأنه لم يطء إيطالى واحد المطعم بقدمه منذ إفتتاحه؟ وما الداعى لرد بعض الموظفين على الهاتف بالإنجليزية حتى إن كانوا لا يحسنونها علماً بأن كل المتصلين تقريباً من العرب؟ وما سبب إشتراط أصحاب الأعمال إجادة لغة أجنبية للتعيين مع العلم بأن جل بل كل تعاملهم هو مع عرب؟ وما الحكمة وراء إستخدام الشباب لكثير من الإصطلاحات الأجنبية التى لها بدائل فى لغتنا بدلاً من لغتهم الأم؟
ولا يطالبهم أحداً بإستخدام كلمة "حاسوب" بدلاً من "كمبيوتر"، لكن ماذا عن "شكراً" التى إستبدلتها "مِرسى" أو "مع السلامة" التى فتكت بها "باى"؟ وهل رأيت طيلة حياتك أجانب يتحدثون بالعربية أو أى لغة غير لغة بلدهم أو يكتبون أسماء محالهم بالعربية فى بلادهم؟ بل إن الخارجية الأمريكية لم تعد تشترط على معظم مبعوثيها فى الشرق الأوسط إجادة العربية لأنه كما يبدو يتحدث أهل تلك المنطقة الإنجليزية أفضل منهم. وتَعَدى الأمر ليضرب أعمق هوية للإنسان وهى إسمه، فكثير من بناتنا الآن يحملن أسماءاً لاتينية مستوردة لا يعلم أهاليهن معانيها بل ولا يقدرن حتى على نطقها نطقاً صحيحاً.. فأى مهانة تُهانها أمَّة بعد ذلك؟
وقد تعرضْت شخصياً منذ عدة سنوات لموقفَين فى منتهى السخافة بمصر، إذ تم طردى ذوقياً من مطعم بمنطقة راقية لارتدائى جلباباً، وتكرر نفس الشىء على بوابة النادى الذى أشترك به. وقد أفاد رئيس مجلس الإدارة لاحقاً عندما ناقشته بأن هذا زِىّ "بلدى" ولا يمكن السماح به فى نادى راقى، وكأن "بلدى" قد صارت سبة وعار نحاول التملص منه مجتهدين لتحويلها إلى "بلدهم".. ويا ليتنا نفعل ذلك بإقتباس المبادىء المحترمة منهم -والتى سبقناها إليهم يوماً- بل يقتصر التقليد على المظاهر الخارجية التى تغتال الهوية وحسب. فنحن لا نتحدث عن تبنى وسيلة صناعية حديثة أو شراء ساعة ألمانية أفضل أو أرخص من نظيرتها المحلية، بل نتحدث عن إرتداء قطعة قماش يمكن تفصيلها على أى شكلٍ كان، فما الضرر البالغ من إرتداء الشكل الذى تَوارثناه عن أجدادنا من وقت لآخر ولو على سبيل التغيير بدلاً من الشكل التى يرتديه الأجانب؟ وما العيب بالرغبة فى الإختلاف المظهرى لإبراز الإنتماء لثقافة إسلامية أو عربية أو شرقية؟ وهل صار التمسك بالجذور تهمة ومحلاً للإنتقاد؟ هل فقدنا إحترامنا لأنفسنا وغدونا نقدس كل ما يأتينا من الخارج ونحتقر كل ما ينبع من الداخل إلى هذا الحد؟
فى النهاية نقول أننا نحن الذين بحاجة لتلك الموروثات وليس العكس، لأنها بموتها تموت كرامة الأمم وتُمحى بصمتها من الدنيا بتحَوُّلها إلى مسوخ مشوّهة لا طالت شرقاً ولا حصّلت غرباً. أما الجيوش الجرارة والهزائم المريرة فتلك يداولها الله بين الناس ولا تشكل خطراً على الثقافات، فلن يَنزع هدير الطلقات ولا إنفجار القنابل ولا أزيز القاذفات هوية شعباً ولا هوية أطفاله، بل ينزعها هو بيده.. أو يبقى عليها إن شاء.
حسام حربى - مدونة «أَبْصِرْ»
https://ubser.wordpress.com