بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله
(مُقدِّمةُ ابن خلدون)
التعريفُ بالمؤلِّـف:-
كّيفَ لِمِثلي أنْ يُقدِّمَ شخصًا بمكانةِ ابن خلدون؟! ولو قدّمته بإيجاز ٍ شديدٍ فهل سَأظْلِمُ مُقَدِّمَتَهُ كما ظَلَمتُهُ بِتَقديمي المتواضع ِ لهُ...
هو عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، تـَرجعُ أسْرَتُهُ إلى أصلٍ حَضرمي. وُلِدَ في تونس في غرّةِ رمضان لسنةِ اثنتين وثلاثين وسبعمائة.
ارتَحَلَ غربًا بعدَ أنْ فَتَكَ الطاعونُ بوالديهِ وجُلّ مُعَلِّميه فَواصَل في تِلمسان تَحصيلَُهُ العِلمي. درسَ الفلسفة َ عبرَ مؤلِّفاتِ ابن سيــنا وابن رُشد. اعتكفَ للبَحثِ العلمي في قلعةِ توغزوت في الجزائرِ وفيها أنهــى مُقدِّمتَهُ وعُمرهُ خمسٌ وأربعون سنة.
هاجَرَ إلى القاهِرةِ لسنةِ أربعٌ وثمانون وسبعمائة وعُيِّنَ قاضي قُضاةُ المَذْهبَ المالِكي. مالَ في أواخِرِ حياتِهِ إلى الزُّهدِ بعدَ أنْ غَرَقتْ أ ُسْرَتَهُ وأموالُهُ.
توفِّيَ ابن خلدون في الخامسِ والعشرين من شهرِ رمضان للسَّـنَةِ الثامنةِ بعدَ الثمانمائة .
المُقّدِّمَة:-
موسوعة ٌ في كتابِ أمْ كتابٌ في موسوعةِ...
تَقَعُ المُقَدِّمةَ في سِتـَّة ِ أبوابٍ مجموع فصولِها يزيدُ عن المائتين. وكلُّ بابٍ من هذه الأبوابِ السِّتَّةِ يختـَصُّ بموضوعاتٍ مُختَلِفةٍ.
1
احتوى البابُ الأَّوَّل على العُمرانِ البشري والإنسانِ وتباين الجِنْسِ البَشري بالمميزاتِ فيما بينَهُمْ وعن تأثيرِ الهواءِ والغِذاءِ بأحوالِ البَشَرِ وأخلاقِهِم ونفسياتهم..
وفي ذلِكَ يقول ابن خلدون:
اعلم أنَّ الاجتماعَ الإنساني ضَروريٌ ويُعَبِّرُ الحُكماءُ عن هذا بِقولِهم "الإنسانُ مّدّنيٌّ بالطَّبْعِ." أي لابُدَّ له منَ الاجتِماعِ الذي هوَ المَدينةُ في اصطلاحِهِم. وبَيانُهُ أنَّ اللهَ سًبحانَهُ لمَّا خلَقَ الإنسانَ وركَّبّهُ على صورةِ لايَصِحُّ حياتُها وبقاؤها إلا بالغذاءِ وهّداهُ إلى التماسِهِ بِفِطْرَتِهِ وبِما رُكَّبَ فيه من القُدرةِ على تَحصيلِهِ. إلا أنَّ قّدرةَ الواحدِ من البشرِ قاصِرَةٌ عن تَحصيلِ حاجَتِهِ من ذلِكَ الغِذاءِ غيرُ موفِيَةِ لهُ. ولو فرضنا منه أقل مايُمكنُ فرضُهُ وهو قوتُ يومٍ من الحِنطةِ مثلا فلايَحْصُلُ إلا بِعِلاجِ كثيرٍ من الطَّحنِ والعّجْنِ والطّبْخِ، وكُلٌّ واحدٍ من هذه الأعمالِ الثـَّلاثّةِ يَحتاجُ إلى مواعيـنَ وآلاتٍ لا تَتِمُّ إلا بِصِناعاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ حدَّادٍ ونَجَّارٍ وفاخوري –صانع الفُخَّارَ من الطين-.
هذا غيرَ الزِّراعةَ والحصادَ والدَّرسَ؛ فيستحيلُ أنْ تفيَ بذلك كُلُّهِ أو بعضِهِ قُدرَةُ الواحدِ فلابدَّ من اجتماعِ القٌدَرِ الكَثيرةِ من أبناءِ جنسةِ ليحصُلَ القوتُ لهم ولهُ.
فيحصِلُ بالتَّعاوُنِ قَدرُ الكِفايةِ من الحاجَةِ لأكثّرَ منهم بأضعافٍ.
2
احتوى البابُ الثانِ على الفُروقاتِ بين العربِ؛ وبينَ البدوِ والحضرِ وما للفروقاتِ بينَهُمْ. كذلكَ احتوى على النَّسبِ وكيفَ يَختَلطُ الرَّجَلُ بغيرِ قومِهِ ويَصيرُ مِنْهُم. وغيرَ ذلكَ من الفُصولِ الاجتِماعيِّـة..
3
احتوى البابُ الثالِثُ على الدولةِ والمُلكِ والخلافةِ وتحدّثَ بإيجازٍ عنْ ذلكَ دونَ إخلالٍ بالمَعلومَةِ. فذكَرَ أنَّ المُلكَ والدولةَ إنَّما يَحْصُلانِ بالقبليَّةِ والعصبيَّةِ. وبيَّنَ أنَّ الدعوةَ الدينيةَ منْ غيرِ عصبيةٍ لا تـَتـِمْ. وكيفَ تَنْقَلِبُ الخلافة إلى مُلكٍ وما أسبابُ ذلك. وكَتَبَ أيضًا كيفَ أنَّ الظُّلمَ مؤذنٌ بخرابِ العُمران.
سأتوقَّفُ عند أحدِ الفُصولِ وأذكرُ لكم ماقال:
فصل أنَّ الدولةَ لها أعمارٌ طبيعيةٌ كما الأشخاص.
أمَّا أعمارُ الدُّولِ وإنْ كانتْ تختَلِفُ بِحَسَبِ القِراناتِ إلا أن الدولةَ في الغالب لاتعدو أعمارَ ثلاثةِ أجيالٍ والجيلُ هو عُمرُ الشَّخصِ الواحدِ من العُمرِ الوَسَطِ، فيكونُ أربَعينَ الذي هوَ انتهاءُ النّموِّ والنُّشوءِ إلى غايته. قال تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ولِهذا قُلنا إنَّ عُمرُ الشَّخصِ الواحدِ هو عُمرِ الجيلِ.
فالجيلُ الأول لم يزالوا على خُلُقِ البداوةِ وخُشونَتِها وتّوَحِّشِها من شّظّفِ العيشِ والبَسالةِ والافتراسِ والاشتراكِ في المجدِ فلا تزالُ بذلكَ سورةُ العصبيَّةِ محفوظّةً فيهم.
الجيلُ الثانِ تَحوَّل حالُهُم بالمُلكِ والتَّرفهِ منَ البَداوةِ إلى الحضارةِ ومنَ الشَّظفِ إلى التَّرفِ والخِصَبِ ومن الاشتراك في المجدِ إلى انفرادِ الواحدِ بِهِ وكسَلِ الباقينَ عنْ السَّعْيِ فيهِ.
أمَّا الجيلُ الثالثُ فيَنسونَ عّهدَ البِداوةِ والخُشونةِ كأن لم تَكنْ ويفقُدونَ حلاوةَ العِزِّ والعصبيَّةِ بما هُم فيه من مّلّكةِ القّهرِ، ويبلغُ فيهمْ التَّرفُ غايته فيصيرون عِيالا على الدولةِ ومن جُملةِ النَّساءِ والوِلدانِ المُحتاجين للمُدافَعّةِ عنهم. فإذا جاءَ المُطالبُ لهُمْ لمْ يُقاوموا مُدافَعتَهُ فَيحتاجُ صاحبُ الدَّولَةِ حينئذٍ إلى الاستظهار بسواهُمْ من أهلِ النَّجدةِ ويسْتَكْثِرُ بالمَوالي ويصطَنِعُ منْ يُغني عنِ الدَّولةِ بعضَ الغِناء حتـَّـى يأذنُ اللهُ بانقراضِها فَتَذهبَ الدَّولَةُ بِما حَمَلَتْ.
ا.هـ
وبما أنَّنا بفصلِ السِّياسَةِ فسأضَعُ لكُمْ مُوجَزًا مُهِمَّــًا جدًا عنْ رأيي برأي ابن خلدون بالسِّياسَةِ والفّضائلِ السِّياسِيَّة.
يؤكد ابن خلدون أنَّ الظُلْمَ السِّياسي والعُدوانِ يُجافيان طبيعة الإنسان والاجتماع معا. فالإنسان هو إلى "الخيرِ وخلالِهِ أقربُ، إذْ الخيرَ هوَ المُناسِبَ للسِّياسَةِ" وهي "كفالةُ الخلق ومُراعاةُ المَصالِح" وليسَتِ الرِّئاسَةُ المُلْكْ ! فحقيقةُ المُلك أنَّهُ خروجٌ عن الرئاسَةِ وانحرافٌ عنها، إذ هو "التّغلُّبُ والحكمُ بالقهرِ" وهو طريقُ الظُّلْم والفوضى وهي " مهلكةٌ للبشرِ مُفسِدةٌ للعمرانِ" في حين أنَّ الرِّئاسَةَ " سؤدُدٌ وصاحِبُها مَتبوع، وليسَ لهُ عَليهِم قهرٌ في أحْكامِهِ."
إنَّ الرئاسة هي نوعٌ من المُلكِ يُحبِّذهُ ابن خلدون. فإذا "خلت الدولة من مثل هذه السياسة لم يستتب أمرها" أما الحكم الطبيعي، حكم المتسلطين من الحُكَّامِ فهو طريقُ الفَسادِ. فإذا كان المَلكُ فاحشـًا بالعقوباتِ قاهرًا مُنقِّبًا عن عوراتِ النَّاسِ شملهم الخوفُ والذُّل ولاذوا منه بالكذب والمكر والخديعة فتخلَّقوا بها وفسُدتْ بصائرهم وأخلاقهم وإن دام أمرُه عليهِم وقهره فسدت العصبيَّة".
ليسَ الظُّلم غير الخروجِ عن قواعدِ السِّياسَةِ وفضائِلُها الَّتي تَليقُ بالبَشَرِ. ثم أنَّ الظُّلمَ فوق ذلكَ طريقُ تفكُّك العنصر الأساسي في كلِّ لحمةٍ اجتماعيةٍ، وهو الاستقرارُ السياسي على وجهِ الخصوص.
4
احتوى البابُ الرَّابعُ على:-
فصل في أنَّ المباني والمصانِع في الملَّة الإسلاميِّةِ قليلةٌ بالنِّسبةِ إلى قُدرَتِها وإلى من كان قبلِها منَ الدُّوَلِ.
فصل في أنَّ المَباني الَّتي كانت تَخطُها العربُ يُسرعِ إليها الخَرابُ إلا مانَدَرَ.
فصل في اختصاصِ بعضِ الأمصار ببعضِ الصنائِعِ دونَ بعض.
وغير ذلك من أمور الأمصار والممالك والصَّنائع.
5
احتوى البابُ الخامس على:-
فصلٌ في الرَّزقِ وحقيقَتِهِ وكيفيةِ الكَسبِ.
فصلٌ في أنَّ ابتغاءَ الثِّراءَ السَّريعَ من البحثِ عن الذَّهَبِ والكُنوزِ والدَّفائِنِ ليس بِمَعاشٍ طبيعي.
فصلٌ في أنَّ الجاهَ مفيدٌ للمالِ.
فصلٌ بأنَّ القائِمينَ بأمورِ الدِّينِ من القضاء والفِتْيا والتّدريس والإمامة والخطابة والأذان ونحو ذلك لاتَعظم ثرواتهم في الغالب. وأنَّ السَّعادةَ والكسبَ إنَّما يحصِلُ غالبـًا لأهلِ النِّفاقِ والخُضوعِ والتَّمَلُّقِ !!
وغير ذلك..
6
احتوى الباب السَّادس على:-
فصلٌ في علومِ الدينِ وفصّلها.
فصلٌ في علمِ تعبير الرُّؤيا.
فصلٌ في علم الحسابِ والجبرِ والمعاملاتِ.
فصلٌ في الهندسةِ والمِساحة والأشكالِ.
فصلٌ في علمِ الطَّبِ.
فصلٌ في عِلمِ المنطِق.
فصلٌ في عِلمِ الفلسَفةِ.
إلى آخره من الفصولِ العلميةِ والأدبيَّةِ
...........................................................
مُلَخَّص
تَقَعُ المُقَدِّمةَ في سِتـَّة ِ أبوابٍ مجموع فصولِها يزيدُ عن المائتين. وكلُّ بابٍ من هذه الأبوابِ السِّتَّةِ يختـَصُّ بموضوعاتٍ مُختَلِفةٍ.
الكِتاب تاريخي وثائقي فلسفي علمي أدبي اجتماعي ! يكفي أم أزيد؟!
تعرضُ المقدمة العلومَ ببساطةٍ ولا تعرُضُها من حيث المحتوى؛ بل من حيث ما أهمية كل علم وما الداعي له.
يريك الصح والخطأ بتفكيرِكَ ومانتائِجَ ماتعتقدُهُ حَسَبَ تَفعيلِ أمرينِ هُما المنطقُ والفلسفة.
إن كنتَ قد اعتدت أن تنظر للأمور من زاويةٍ واحدةٍ فحتمًا وبلا شك أنَّك سَتُغيِّرَ من نظرتك للأمور.
هذه المُقدِّمة يَضَعُها "آرنولد توينبي" في مرتبةِ (أعظمُ عملٍ في صِنفِهِ أنجّزهُ عقل ٌ في أيِّ مكانٍ وزمانٍ.)
طُبِعَ الكِتابُ بأكثرِ من دارِ نشر من مُختَلَفِ أقطارِ العالَمِ وحققه عربٌ ومستشرقون من فرنسا وبريطانيا وغيرها. وإنَّ أفضلَ وأجودَ طبعةٍ استطعتُ أنْ أجِدُها وأختارُها لكم من بينِ تِسعِ طبعاتٍ هي الطَّبعةُ الصَّادِرَةُ من دارِ الكِتابِ العربي بيروت لبنان2006 الواقعةُ في 588 صفحة.
هذا ولله الحمدُ من قبلِ ومن بعدِ