فتح (وليد) الباب و اتسعت عيناه من الصدمة و رجع (خالد) خطوتين للوراء و قد غلّفه الجمود !..
شهق الرجل الكهل الذي كان نائما بسيارته و نظر بعينين صارختين يعلوهما حاجبين كثين إلى وجه (وليد) النحيف و إلى عينيه المذعورتين خلف عويناته !..
- أ.. معذرة سيدي.. لم.. لم نقصد هذا، لكن.. لكننا حسبناها سيارة أخرى.. معذرة !..
تلعثم بها فم (وليد) قبل أن يجر (خالد) من كتفه و يحث الخطى مبتعدا و هو يهمس بصوت الفحيح إياه:
- سحقا.. يجب أن نسرع.. يجب أن نلحق بكمال !..
ثم تجاوزه صائحا بحدة:
- تاكسيييييي !..
* * *
كانت تحوّل نظراتها بينهم و قد احمرّت عيناها من شدة البكاء و الذعر !..
قد كفّت عن إصدار الهمهمات بعد أن يئست و استسلمت لمصيرها.. لن تنجو من هؤلاء الوحوش أبدا..
ضاع مستقبلها.. ضاع شرفها. لكنها لم تكن تسمع كلام صديقتها (كوثر).. ألم تنصحها غير ما مرة أن تستر عوراتها، لئلا يطمع فيها ضعيفوا القلوب ؟.. فإلى من كانت تكشف نفسها يا ترى ؟.. لماذا كانت تظن أن الجمال هو جمال العورات ؟.. حتى أنها بحثت عن الثوب الشفاف و العباءة المزركشة، الملفتة و القماش الضيق، الواصف، الفاضح... و لكنها الأفلام و المسلسلات و الكليبات اللعينة تلك.. تزين القبيح و ترغب الفتيات في التعري توطئة للفجور !.. و..
تيقّظت من خواطرها و قد انتبهت إلى أن الثلاثة منهمكون في حديث يبدو من طريقة كلامهم أنه خطير.. سمعت شيئا كـ"حاجز أمني" و "شرطة"..
مال عليها أحدهم فجأة و وضع سكينا على صدرها و هو يهمس:
- اسمعيني جيدا.. عندما أعطيك الإشارة ستحشرين رأسك أسفل الكرسي و إن أصدرت أي صوت، أي همسة.. حتى لو تثاءبت سأقتلع قلبك من مكانه.. مفهوم ؟!..
نظرت له بهلع ثم أومأت برأسها بتوتر و عصبية !..
* * *
- ما هذا ؟..
قالها (وليد) الجالس قرب سائق سيارة الأجرة، مشيرا بأصبعه إلى حشد السيارات الواقفة..
- حاجز أمني على ما يبدو !..
- تبا !.. لابد أن يكون حاجز أمني في هذا الوقت بالذات و في هذا المكان ؟..
نظر له السائق الشاب بتردد و شك..
- وليد ؟..
- كيف يمكننا الآن اللحاق بهم ؟..
- وليد ؟..
- أرى أنه من الأحسن تعزية أهلها..
- يا زفت !..
- ماذا ؟
- أ ليس كمال هو صاحب الدراجة السوداء بالمقدمة.. هناك على اليمين ؟..
- أين ؟.. إني لا أرى شيئا !.. لحظة !... آآه، نعم.. نعم، هو بشحمه و فروة رأسه.. إنه قميصه الأزرق.. ترى ؟..
* * *
بقيت ثلاث سيارات و يحين دوره للتفتيش !..
إن الشرطي الآن يقترب من سيارة و يطلب من سائقها الأوراق بإشارة ملولة..
ينزل زجاج السيارة بسلاسة و تخرج يد تمدّ أوراقا للشرطي الذي يتفحصها بسرعة ثم يعيد النظر في السائق ليشير له أن ينصرف..
يخرج وجه شاب باسم من النافذة يقول شيئا للشرطي و هو يلوح بيده إلى الطريق أمامه !..
- إنها في طريق العامرية ؟..
يجيبه رجل الشرطة بسأم و هو يغادر موقفه.. و تنطلق السيارة.
و لكن !..
هل كان يرتدي السائق نظارة زرقاء ؟..
ثم إن السيارة سوداء !.. كيف لم ينتبه لهذا ؟..
* * *
- آ... أحدهم يرتدي نظارة زرقاء..
* * *
الآن بدأت حالة (كمال) تسوء و تتدهور !..
سيارتان و يجد نفسه أمام الشرطي الذي يبدو غبيا، فهو لم يلاحظ وجوده و لم يتحمل حتى عناء النظر بين السيارات !..
(سهام) مع مختطفيها كانوا على بعد مترات منه و لم يملك أن يفعل
شيئا.. فلو صرخ لإعلام الشرطي لانتبه له و لألقى عليه القبض قبل أن يفهم ما يقوله !..
و في هذه اللحظات، سمع شيئا لم يحببه كثيرا.. إنها سرينة سيارات و دراجات الشرطة التي تقترب من المكان !..
ضغط على رأسه بشدة و تمتم بدعاء ما..
إنه الرعب !.. هو لا يقوم بهذا كل يوم !..
قطرة عرق تجمّعت ببطء على أرنبة أنفه ثم سقطت على إسفلت الطريق.. راقب البقعة التي خلفتها بعينين شاردتين و حاجبين معقوفين.. كأن ذلك يعني شيئا !..
ثم رفع رأسه و العزيمة تكاد تخرج من عينيه..
أشار الشرطي لأحدهم أن يواصل الطريق فاختفت المسامير إياها، ثم..
بدون تفكير.. زمجر مع زمجرة الدراجة و خرج من مخبأه فجأة منطلقا
خلف السيارة الأخيرة و..
شرطي آخر يقتعد كرسيا بجانب الطريق وثب من مكانه ضاغطا زرا أمامه فانتصبت المسامير ليمر فوقها (كمال) و تنفجر الإطارات و يطير هذا مع الدراجة بضع أمتار ثم يسقط أرضا بعنف و ينزلق طويلا و هو يتدحرج.. ثم يستقر أخيرا.. بلا حراك !..
* * *
" ممممم... مممممممممم ! "
* * *
ماذا وقع بالضبط ؟..
لا يستطيع الإجابة ؟..
ما الذي جعله يفقد السيطرة على الدراجة و ما تلك القوة التي دفعته من تحت مع الانفجار المهول ؟..
هل طار فوق الدراجة أم أن الدراجة هي التي طارت من فوقه ؟..
أيضا لا يعلم !..
كل ما يعلمه الآن هو أنه مستلق على الإسفلت الخشن و ضبابة كثيفة تغشي ناظريه مع آلام مبرحة تنهش أوصاله..
بدأ يسمع أصوات ركض فوق الإسفلت و بدأت بعض الخيالات الطويلة السوداء تتراءى أمامه !..
فرك عينيه بسرعة ليرى شرطيين يركضان نحوه.. بيد أحدهما الأغلال و بيد الآخر هراوة سوداء !..
هنا فهم كل شيء دفعة واحدة !.. و قفز من مكانه فارا و هو يلهث و يعرج !..
سيمسكانه لا محالة !..
* * *
هل تكفي جرعة الأدرينالين بدمك كي تنجو ؟
* * *
- هوووووهوووووه...
صاح بها سائق السيارة السوداء و على فمه ضحكة شيطانية.. و اكتفى صديقاه بضحكات هستيرية و هما يتبادلان النظر بينهما !..
طبعا لم تكن (سهام) فرحة هي الأخرى و إنما كان يكسوها اكتئاب و ارتخاء، كأنها أذعنت لموقفها و رضيت بمصيرها جزاء لما كانت فيه من تبرج و ميوعة..
- من تحبين أن يظفر بك أولا.. هه؟.. سنعطيك شرف الاختيار، و ستجديننا راضين، مسلّمين لأمرك... نياهاهاها.. ها.. كح، كح، كح.. اللعنة !..
لم تجب و لم تحرك من وضعها.. و واصلت السيارة التوغل بالطريق النائية و خلفها غبار كثيف !..
* * *
- ماذا يحدث بحق الله ؟..
كان هذا (خالد) الذي مال بجذعه إلى الأمام موجها سؤاله لوليد الصموت على غير عادته..
- ما سبب كل هذه الضوضاء ؟ و لماذا تنطلق السيارات ؟ و أين الشرطة ؟ ثم أين كمال ؟..
هنا نطق (وليد) بعصبية :
- احتفظ بأسئلتك الثقافية التي لن يجيب عنها إسحاق نيوتن ذاته و دعنا
نرى ما يقع !..
و ما إن أنهى كلامه حتى انطلقت سيارة الأجرة بدورها لما خلى السبيل أمامها !..
* * *
سيمسكانه لا محالة !..
* * *
لم يمسكاه بعد.. لكنهما قابا قوسين أو أدنى !..
و لو لم ينط من مكانه لثواني فقط لـ..
تابع الركض و هو يئن و يلهث و يبكي و يتفل و يعرج و..
ما هذا ؟..
إن السيارات تمر بمحاذاته مسرعة كأنما تستغل هذا الظرف النادر !..
التفت يمنة و يسرة ثم إلى الوراء ليقيس المسافة بينه و بينهما..
صوت المفاتيح و السلاسل و القيود وراءه و صوت السيارات التي تمرق بسرعة بجانبه !..
اللهاث و الرعب.. ثم ذلك الألم بمكان ما من جسمه !..
و لمحها..
شاحنة خرجت عن الطريق الممتلئة بالسيارات إلى الجانب الأيسر..
تتقدم بسرعة متوسطة..
قام بتنويه مفاجئ فحوّل مساره بغتة إلى اليسار و خرج عن الطريق، ما أعطاه مسافة أكثر.. ثم عاد يجري إلى الخلف باتجاه الشاحنة و وقف ينتظر بتوتر و توثب..
و ما إن وصلت إلى مجاله حتى قفز متعلقا بجانبها وكاد أن يقع لو لم تتشبث يمناه بقضيب حديدي، ثم تسلّق ببطء إلى فوقها ليلقي بجسده داخلها !..
* * *
إنه الرعب !.. هو لا يقوم بهذا كل يوم !..
* * *
بُهت الشرطيان.. و توقفا و هما يصيحان و يلوحان بأيديهما لسائق الشاحنة الذي زاد من سرعته مبتعدا !..
- اللعنة !..
قالها أحدهما و هو يضغط زرا على الجهاز الأسود..
- تشششش... إنه في شاحنة كبيرة حمراء,, رقمها الوطني 234465 ب، حوّل..
* * *
لم تكن الشاحنة فارغة كما اعتقد و إنما مليئة بالنساء اللاتي يغنين و يضربن على أياديهن !..
و قد سقط فوقهن فجأة مما أثار استغرابهن و رعبهن فصرخن جميعهن و كاد أن يغمى على بعضهن في حين ظل هو مبهوتا و عيناه شاخصتان..
فهم من ملابسهن و زينتهن و رائحة العطر الخانقة أنهن متوجهات إلى عرس من الأعراس.. فلبسه خجل شديد و ارتباك مفرط حتى أن يداه كانتا ترتعشان !..
واصلت إحداهن عويلها المريع فتناقصت سرعة الشاحنة حتى توقفت.. لقد سمع السائق الصراخ طبعا، و إلا فهو أصم !..
هنا، أطلّ كمال برأسه إلى الخارج و دارت عيناه في مقلتيهما و عقله يعمل بسرعة !..
* * *
هل وجدتموها ؟.. هه ؟.. أرجوكم أسرعوا، يعلم الله ما يفعلونه بها الآن..
* * *
- اهدئي يا ابنتي.. كفي عن البكاء أرجوك.. تفضلي، اجلسي.. نعم، اهدئي حبيبتي.. و الآن.. ما الخطب ؟..
كفكفت (كوثر) دموعها بصعوبة و حطّت بجسدها المترنح على الأريكة العريضة و هي حائرة، سائحة.. ثم حولت عينين حمراوتين إلى المرأة بجانبها و تلعثمت قائلة :
- لا أعرف بما أبدأ يا خالتي ؟.. و الله لا أعلم؟.. و لكن !.. أحم، احتسبي... (سهام) قد.. قد اختُطِفت..
- سهام ابنتي.. ابنتيي.. و لكن ما...
و انفجرت باكية !..
* * *
- لماذا لم تتوقف و نحن نشير لك ؟..
- و الله يا سيدي الشرطي.. و الله ما رأيتكم و ما انتبهت لإشارتكم و..
- كفى !.. ما هذه الضوضاء بالخلف ؟.. من تُـقل ؟..
- إنهن النساء يا سيدي.. نحن متوجهون إلى حفل زفاف و..
- افتح البوابة..
- أمرك سيدي..
و فعل ما أُمر به.. فتح البوابة فارتفع زعيق النساء المجنون أكثر لما رأين الشرطة..
- أين هو ؟..
كفّ الكل عن البكاء و الصراخ و الولولة.. لقد قال الشرطي شيئا !..
- أين هو ؟.. لن أعيدها مرة أخرى !..
أجابت أكثرهن شجاعة و هي تعدل من تسريحة شعرها و تركز نظرها على الشرطي الآخر، الذي ربما وجدته جذابا بقبعته الزرقاء :
- لقد قفز على رؤوسنا كالقط قبل قليل و قفز خارجا كالأرنب قبل قليل كذلك !..
ثم ابتسمت في وجه الشرطي الشاب الذي بادلها ابتسامة بلهاء..
طوّق الشرطي الغضبان خصره بيديه و نظر يمنة و يسرة و حاجبيه مقوسين.. ثم همس ضاغطا على كلماته:
- سأمسكك يا ابن الكلب.. لا أحد يفلت مني !..
* * *
كانت الشاحنة تمشي على جانب الطريق ما جعلها قريبة من بعض الحشائش و الأشجار.. فساعد ذلك في اختفاء كمال ما إن قفز من الشاحنة !..
صحيح أنه سقط و قد التوت رجله المصابة.. لكنه نهض مسرعا، عاضا على شفته السفلى من شدة الألم و توارى خلف الحشائش، يلتقط أنفاسه.. هنا لمح السائق البدين ينزل من الشاحنة و يتوجه قلقا إلى الخلف ليرى سبب صراخ النساء.. و قبل أن يضع المفتاح في قفل البوابة الخلفية فاجئه شرطيان، فأمسكه أحدهما من تلابيبه و بدأ يطرح عليه الأسئلة..
* * *
همّ الشرطيان بالمغادرة لولا أن سمعا رنّة بمكان ما !..
نظرا إلى السائق البدين، فحرّك هذا رأسه نفيا بمعنى (و الله لست أنا !)..
إنها رنة هاتف و هي تبدو خارج الشاحنة و في مكان قريب..
نظرا إلى بعضهما ثم التفتا في الوقت نفسه إلى جانب الطريق و بالضبط إلى بقعة بها حشائش كثيفة !..
لازالت نغمات الرنة المتحمسة تصدح بالمكان و قد غدت أكثر وضوحا و غدا مصدرها واحدا بعدما كان كل شيء !..
و اتسعت ابتسامة الشرطي أكثر !..
* * *
أحيانا يجب أن تخسر شيئا كي تنقذ الآخر..
* * *
" التتمة بالجزء الثاني إن شاء الحق سبحانه "
الحلقة القادمة: عملية إنقاذ (الجزء الثاني)